هل الله موجود ؟
إن حاجتي لمعرفة من أوجدني والهدف من وجودي وإلى أين سأمضي هي أكثر من حاجتي إلى الطعام، فعدم الأكل يؤدي للموت، والموت سيقع لا محالة في يوم من الأيام.
ولكن لو كان هناك حساب بعد الموت، ولم أكن على الطريق الصحيح، فسأخسر الجنة وسأتعرض لعقوبة الخالق.
فهل يوجد خالق لهذا الكون؟
فسعة الكون فوق كل وصف، فالمسافة بين القمر والأرض ثلاثمائة وأربعة وثمانون ألف كيلومتراً، وضوءه يصل إلى الأرض في أقل من ثانيتين، والمدة التي يقطعها الضوء من طرف إلى آخر داخل مجرتنا هي تسعون ألف سنة ضوئية، وكل سنة ضوئية تعني عشرة تريليون كيلومتراً، أي أن سعة مجرتنا تسعمائة ألف تريليون كيلومتراً، كما أن هناك ملايين المجرات و هناك نجوم في أطراف الفضاء المعلوم تحتاج إلى مليارات من السنين الضوئية ، فما هي هذه المسافة؟! و ما هي مسافة الفضاء غير المعلوم؟!
كما أن حجم الأرض أكبر من تريليون كيلومتراً مكعب، وحجم الشمس أكبر من حجم الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة، وحجم نجم (في وآي كانيس ماجوريس) (VY Canis Majoris) أكبر من حجم الشمس بـأكثر من تسعة بليون مرة !!، وحجم سديم المرأة المسلسلة أكبر من حجم الشمس بألف مليار مليار مرة|(1000.000.000.000.000.000.000)!!.
فمن أوجد هذا الكون، بما فيه من سماء و أرض و إنسان و حيوان و نبات؟
فهل وجد بدون موجد؟ فالعدم لا يوجد شيئاً لأنه عدم!
أم هل أوجد هذا الكون نفسه بنفسه؟ فإنه إذا خلق نفسه وجب أن يكون موجوداً قبل أن يخلق نفسه ليخلقها، و هذا باطل، فإن كان موجوداً قبل أن يُخلق؛ فلا حاجة عندها أن يَخلق نفسه، وإن كان غير موجود قبل أن يُخلق؛ فكيف يَخلق ؟!
قال تعالى ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) الطور: ٣٥
إذاً لابد لوجوده من موجد.
فهل هي الطبيعة كما يقول بعضهم؟ ولكن الطبيعة جزء من العالم و العالم لم يخلق نفسه فكيف لهذا الجزء أن يخلق نفسه؟!
فمن أوجد الطبيعة، ولماذا لم تعد هذه الطبيعة تخلق كما خلقت في السابق حتى نراها تخلق ؟!
وكيف تمكنت من إعطاء هذه المخلوقات مقدرة التكاثر و التحكم في هذا التكاثر؟! فلو لم يكن هناك تحكم في التكاثر لقضى الجراد مثلاً على جميع النباتات الخضراء التي على وجه الأرض خلال سنوات!
ومادام الكون وجد صدفة فلماذا تماسك النظام في الكون بعد أن وجد مصادفة و لم يسرع إليه الخلل و الفوضى؟!
كما أن الطبيعة كما يقولون عمياء تخلق خلق عشواء لا عقل لها، وفاقد الشيء لا يعطيه، فمن لا يوجد لديه التفاح لا يستطيع أن يعطيك التفاح إلا إذا حازه، فكيف تعطي الطبيعة العقل للإنسان و هي لا تملكه؟!
وكيف فطرت الطبيعة الناس على أن الحق أولى بالاتباع؟! حتى ولو عارض الهوى، و من لا يستجيب للحق يجد تأنيباً من ضميره ما لم تتلوث فطرته؟!
فلو قيل إن عادة المجتمع هي التي أنشأت الأفراد على الخصال الحميدة بالجملة مما أدى إلى وجود تأنيب الضمير، فلماذا اختار المجتمع هذا السلوك في الأصل ليكون عادة؛ لو لم يكن الوازع الأخلاقي مركوزاً في النفس الإنسانية؟!
فمن أوجد هذا الوازع الأخلاقي؟ فهل الطبيعة لها أخلاق؟!
وهل هذا الكون الموجود بهذه الدقة و النظام وجد صدفة كما يقول بعضهم؟ فالمصادفة ممكنة في بعض الأمور ومستحيلة في أمور أخرى.
ولنعطي مثالاً ليتضح لنا كيف تتكاثر الأعداد بشكل هائل ضد وجود الكون صدفة.
فمثلاً خذ عشرة أوراق، واكتب عليها أرقاماً متتالية، من 1 إلى 10 وضعها في صندوق وهزه ثم حاول سحبها من الصندوق بالترتيب من 1 - 10 دون أن تنظر إليها، إن فرصة سحب الرقم 1 أولاً هي 1 إلى 10، وفرصة سحب الرقم 1 ثم 2 متتابعــين هي 1 إلى 100 ، وفرصـــة سـحـب الأوراق من 1 إلى 10 متتاليـة هــــي: 1 إلى عشرة آلاف مليون، أي يمكن أن تكون مرة صحيحة مقابل عشرة آلاف مليون مرة خاطئة.
هذا في تنسيق عشرة أرقام فقط، فكيف بتنسيق هذا الكون المحكم؟!
فلو كان حجم الأرض أصغر مما هو عليه؛ لقلت جاذبيتها و لما أمكنها من أن تمسك بالماء و الهواء من حولها، كما هو الحال في القمر، و لو زاد حجم الأرض عما هو عليه؛ لازدادت الجاذبية ولاستحالة الحياة على الأرض. فمن الذي حدد هذا الحجم، هل هي الصدفة ؟
كما أن الأرض لو اقتربت من الشمس لاحترقت ولو ابتعدت لتجمدت، فهل الصدفة هي التي اختارت هذه المسافة المحكمة؟
كما أن الأرض تدور حول محورها بمعدل ألف ميل في الساعة، ولو دارت بمعدل مئة ميل في الساعة؛ لتضاعف طول الليل و النهار على ما هو عليه الآن عشر مرات، و عليه فإن النباتات ستحترق في النهار و تتجمد في الليل، كما أنه لو زاد معدل الدوران إلى عشرة ألاف ميل في الساعة؛ لأصبح طول الليل والنهار عُشر طوله الحالي.
كما أن الغلاف الجوي المحيط بالأرض لو قلت سماكته عما هو عليه؛ لاخترقت النيازك غلاف الأرض الخارجي كل يوم، ولسقطت على الأرض و أحرقتها.
كما أن الغلاف لو كان أسمك مما هو عليه لاختل مرور الأشعة التي يحتاجها النبات والحيوان والتي تقتل الجراثيم و تنتج الفيتامينات.
كما أن شمسنا لو أعطت نصف إشعاعها لتجمدنا، ولو زاد إشعاعها بمقدار النصف لأصبحنا رماداً.
كما أن نسبة الأوكسجين 21% من الهواء، و لو تحولت مثلاً إلى 50% فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال بمجرد أول شرارة من البرق، ولو أن نسبة الأكسجين في الهواء قد هبطت إلى 8% لما أمكن أن تتوفر كثير من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان، كالنار مثلاً.
وانظر إلى العلاقة العجيبة بين الأكسجين وثاني أكسيد الكربون فيما يتعلق بالحياة الحيوانية وعالم النبات، فالحيوان يتنفس الأكسجين ويخرج ثاني أكسيد الكربون، والنبات يستهلك ثاني أكسيد الكربون ويخرج الأوكسجين، ولو كانت هذه المقايضة غير موجودة فإن الحياة الحيوانية ستستنفذ الأكسجين وبالتالي موت الإنسان و الحيوان، والعكس صحيح.
كما أن تكاثر الإنسان يقوم على وجود الحيوان المنوي لدى الرجل والبويضة لدى المرأة، وباتحادهما ينتج الجنين، فلماذا وجدت البويضة لدى المرأة و الحيوان المنوي لدى الرجل؛ ولم يكن لدى كليهما نفس الأمر الذي لدى الآخر؛ بل كان كل منهما مكمل للآخر؟!
كما أن هذا الجنين قبل خروجه من الرحم كان له عينان، بالرغم من أنه لا يحتاج إليها داخل الرحم، ولكنه سيحتاج إليها إذا خرج من الرحم، كما وجد للجنين السمع و هو لا يحتاجه داخل رحم أمه، حتى الأسنان فإن أساسها قد تكون و هو داخل رحم أمه، كما أنه زود بجهاز تنفس ليستخدمه بعد خروجه من الرحم، الأمر الذي يدل على أن خالق هذا الجنين يعلم أنه سوف يخرج من هذا الرحم إلى عالم آخر يحتاج معه لهذه الأدوات و لذلك جهزه بها.
و لو قيل لنا أن من صنع مركبة الفضاء وصمم ملابس رواد الفضاء هو شخص لم يتعلم و لا يعرف من العلم شيئاً لما صدقنا هذا القول، لأنه لابد وأن يكون له علم بالفضاء ودرجات الحرارة والضغط وخلافه وما يلزم لذلك، كذلك فإن من أوجد هذا الجنين لابد أن لديه علم بأنه سيخرج من هذا الرحم إلى بيئة أخرى سيحتاج فيها إلى هذه الأدوات ولذلك زوده بها، وليست الصدفة بل هو الله الخلاق العليم.
كما أن جسم الإنسان يتكون من خلايا تزن الخلية جزءاً من مليار جزء من الغرام، وفي كل خلية نواة، وفي النواة أجسام غريبة، فيها صبغيات تقوم بمهمة نقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء والأحفاد.
فأين تقع هذه الصفات الوراثية في خلية لا ترى إلا بالمجهر؟ وكيف تصل التعليمات والأوامر؟ ومن يصدرها؟ ليتحدد لون الشعر و العينين و طول القامة و قسمات الوجه و شكل المشية و المزاج و العظام و العضلات و الأصابع و الأظافر و الأمراض الوراثية ... إلخ؟
فلا مناص من الاعتراف بأن الخلايا ترغم على تغيير شكلها و طبيعتها، لتتماشى مع احتياجات الكائن الذي هي جزء منه، فيذهب بعضها للحم، وبعضها للجلد، أو تدخل في تركيب الأذن اليمنى أو اليسرى أو غيرها.
إن مئات الآلاف من الخلايا تبدو كأنها مدفوعة لتفعل الشيء الصواب في الوقت الصواب وفي المكان الصواب، والحق أنها طائعة، ولاشك أن هذه العمليات جاءت تعبيراً عن القوة الإلهية.
كما يوجد في جسم الإنسان خمسون مليون مليون خلية(50.000.000.000.000)، وفي كل خلية 46 كروموسوم، ويحمل كل كروموسوم أكثر من خمسين ألف صفة وراثية، أي أن عدد الصفات الوراثية التي تسبب الفروق الفردية مابين شخص وآخر "مائة و خمسة عشر أمامها ثمانية عشر صفراً".
فمن أبدع هذا الخلق؟
فليس من العقل أن نقول باحتمال وجود العالم صدفة؛ مقابل بلايين البلايين من الاحتمالات التي تؤكد أن العالم لم يوجد صدفة.
ومن ذلك ما ذكرناه من ترتيب الأرقام من واحد إلى عشرة.
وما هي نسبة الصدفة لخروج كتاب متقن في الرياضيات من قيام طفل رضيع بالضغط عشوائيا على لوحة المفاتيح في الكمبيوتر؟!
لاشك أن احتمال ذلك يصل إلى درجة المستحيل، فكيف باحتمال وجود هذا الكون المحكم صدفة!
ولنضرب مثلاً آخر لإمكانية تكون جزيء من البروتين بالمصادفة، فإن الجزيء الواحد من البروتين يتكون من خمس عناصر (الكربون، الهيدروجين، النيتروجين، الأكسجين، الكبريت) وعدد الذرات التي يتكون منها جزيء البروتين نحو أربعين ألف ذرة، و لما كان عدد العناصر الموجودة في الطبيعة والتي أكتشفت حتى عام 2008 م هي 117 عنصرا موزعة توزيعاً مختلفاً؛ فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لتكوين جزيئاً واحداً من البروتين هو واحد إلى "رقم واحد مسبوق بـ 196 صفراً " و هو رقم لا يمكن النطق به.
كل هذا من أجل جزيء واحد من البروتين، فكيف يمكننا أن نتصور علمياً إمكانية حصول كل التركيبات البيولوجية و الفسيولوجية و الجيولوجية و الفلكية و غيرها في هذا الكون الواسع بدون مدبر حكيم و بمحض الصدفة؟!
ولنفترض أن هذا الجزيء من البروتين قد تشكل صدفة، فمن يستطيع أن يضع السر الأعظم في هذا الجزيء و هو الروح؟!
قال تعالى ( ويسئلونك عن الروح قل هي من أمر ربي ومآ أُوتيتم من العلم إلا قليلا ) سورة الإسراء :85
وقال تعالى ( هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين) سورة لقمان : 11
وقال تعالى ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضَعُفَ الطالب والمطلوب) سورة الحج : 73
كل ما سبق يدل على خروج النظام من الفوضى إلى التصميم والقصد، كما أن هذا الاحتمال الضعيف جداً على قولهم هو احتمال معدوم، لأنه من الذي أوجد الحياة في هذا الكائن الحي؟!
وعليه فإن هذا الكون لا بد له من موجد لديه قدرة عظيمة استطاع بها أن يوجد هذا الكون، كما أن لديه علم و حكمة وحياة، كما أنه موجود غير محتاج لأحد في وجوده، وأنه خالق وإله واحد.
إذ لو كان للعالم خالقان لوجب أن يكون كل واحد منهما حياً قادراً عالماً مريداً مختاراً، والمختاران يجوز اختلافهما في الاختيار، لأن كل واحد منهما غير مجبر على موافقة الآخر في اختياره، فلو أراد أحدهما خلاف مراد الآخر في شيء لم يخلو أن يتم مراد أحدهما دون الآخر، و من لم يتم مراده فهو عاجز و لا يكون العاجز إلهاً.
ولو كان هناك أكثر من خالق فسيكون هناك أكثر من إله، مما يؤدي إلى فساد السموات والأرض وخروجهما عن نظامهما، لأن كل إله يريد أن ينتصر على الإله الآخر، ويكون هو صاحب الأمر و النهي، ولتضاربت المصالح، كما أن كل إله يريد أن يذهب بما خلق، قال تعالى ( لو كان فيهما ءالهةٌ إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرض عَمَّا يصفون) الأنبياء: ٢٢
وقال تعالى ( قل لو كان معه ءالهةٌ كما يقولون إٍذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) الإسراء: 42
وقال تعالى (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إلهٍ إذاً لذهب كل إِله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عمّا يصفون) المؤمنون: ٩١
ولو قال شخص أنه سلم بوجود الخالق المدبر لهذا الكون، ولكن من أوجد هذا الخالق؟
فنقول أننا لو مضينا معك في هذا، فإننا سنسير في سلسلة تنتهي بأن الله هو موجد الوجود، لأنه لو كان شيء أوجده فمن أوجد موجده؟ وهكذا إلى أن نصل إلى وجوب وجود موجد لكل هذا الوجود، وهو الله.
وعليه فإننا نسلم بأن هناك إلهاً أوجد كل هذا الكون، وأن هذا الإله لم يوجده أحد، وأنه متصف بجميع صفات الكمال، وأن بعض صفات هذا الإله يمكن أن نصل إليها بعقولنا، وبعض الصفات لا يمكن أن نصل إليها إلا بواسطة رسل الله الذين أرسلهم لنا ليبينوا لنا صفات خالقنا، ويبينوا لنا الطريقة الصحيحة لعبادته.
فهذا الكون المحكم الدقيق ينبئنا بأن موجده حكيم، وهو الذي يضع الشيء موضعه، وعليه فلا يمكن أن يتصور أن يكون لكل ما في هذا الكون حكمة من وجوده - حتى أجزاء جسم الإنسان كل جزء له حكمة وغاية من وجوده - إلا الإنسان ليس لوجوده حكمة، بل خلق عبثا،ً فهذا غير منطقي، إذاً فلابد لوجوده من حكمة، وهي عبادة الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر متفق عليه بين العقلاء، كما أن البشر مفطورون بطبيعتهم على التعبد، وعلى الاعتراف بوجود الخالق، حتى أنك تجد الناس عند اشتداد الكروب مفطورين على اللجوء إلى الله.
ولما كانت العبادة من الأمور التي تحتاج إلى بيان لمعرفة مراد الله، اقتضت حكمة الله إرسال الرسل ليبينوا للناس كيفية العبادة وفق مراد الله.
وقد أرسل الله العديد من الرسل كنوح وإبراهيم ويوسف ولوط وصالح وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام، ليبينوا للناس الطريقة الصحيحة للعبادة، وأن من اتبع الرسول سيفوز برضا الخالق وسيدخل جنته التي جعلها ثواباً للمحسنين، وأن من خالف رسله سيغضب عليه، وسيدخله ناره التي جعلها عقاباً للمسيئين، وقد تتابعت الرسل فكلما انحرف الناس وغيروا الدين؛ أرسل الله لهم رسولاً ليبين لهم وليقيم الحجة عليهم.
قال تعالى ( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً) سورة النساء: 165
وكان آخرهم نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله وجعله خاتم النبيين، وتكفل بحفظ رسالته إلى قيام الساعة
قال تعالى ( إِنّا نحن نزلنا الذكر وإِنَّا لهُ لحافظون) الحجر: ٩